بلدة عين إبل الحدوديّة المسيحيّة، جنوبيّ لبنان |
مسيحيو لبنان يتنفسون ويرتاحون قليلا والسبب
على غرار الرابع عشر من أغسطس/آب 2006، تاريخ انتهاء «حرب تموز» الشهيرة بين إسرائيل وحزب الله، أطلّ السابع والعشرون من نوفمبر/تشرين الثاني 2024. بين الحربَين لا تشابه سوى في النهاية، أما فاتورة لبنان فأكبر وأبهظ اليوم.
بين ليلةٍ وضحاها تراكَم الحديث عن اختمار تسويةٍ عرّابتها الولايات المتحدة الأميركيّة بدعم فرنسيّ تُنهي القتال الدائر بين حزب الله وإسرائيل. ارتضى الفريقان.
وقّعا على اتفاق يضمن وقف إطلاق النار ويُطبَّق تدريجيًّا على امتداد 60 يومًا يتخلّلها انتشار الجيش اللبناني على الحدود الجنوبيّة مع مراقبة دوليّة مشدّدة.
إسقاط سرديّة «الانتصار»
حلّ صباح الأربعاء المثلِج على جبال لبنان مثلِجًا قلوب معظم أبنائه، وكلّ مسيحيّيه على اختلاف مشاربهم وتحالفاتهم. توحّد التموضُع –بحدّة متفاوتة وأشكال مختلفة- من الحرب المفروضة على الوطن. انضوى مسيحيّو البلاد تحت عباءة الصرح البطريركي المارونيّ.
من بكركي، في كلّ زمان ومناسبة، رفع الكاردينال بشارة بطرس الراعي والمطارنة الموارنة الصوت رافضين زجّ لبنان في هذه الحرب العبثيّة، وداعين إلى الحلّ الدبلوماسي لاستعادة السلام.
يعرف المسيحيون تحديدًا قيمة «السلام»، هم الذين افتقدوه عقودًا في اقتتالٍ أهليّ انتهى في الميدان ولم ينتهِ في النفوس والسلوك السياسي.
اليوم، طوى هؤلاء صفحة جديدة من حربٍ لم يوفّر لها أيٌّ منهم غطاءً -أقلّه علنيًّا- كما في العام 2006؛ يوم شكّل التيار الوطني الحرّ ظهيرًا مارونيًّا قويًّا لحزب الله في أعقاب اتفاق تحالفيٍّ شهير احتضنته كنيسة مار مخايل-الشيّاح، الضاحية الجنوبية لبيروت.
طوى هؤلاء الصفحة من دون ضمان عدم تكرار السيناريو المدمِّر، طالما أنّ شرعيّة السلاح ليست محصورة في يد الدولة ومؤسساتها الأمنيّة. مرّت ساعات على إعلان الهدنة.
أسقطت الأحزاب المسيحية المعارِضة لحزب الله وسلاحه سرديّة «الانتصار» في وطن دُمِّر بشره وحجره واقتصاده.
وقال سمير جعجع، رئيس حزب «القوات اللبنانية» (صاحب أكبر كتلة برلمانية وأوسع قاعدة شعبية مسيحية):
«لن نقبل بأيّ تسوية أو مساومة مع السلاح غير الشرعي بعد كلّ ما أدت إليه استراتيجية حزب الله الخاطئة من دمار وموت وتهجير وخراب».
في المحصّلة، سيواصل المنادون بسيادة لبنان ما بعد الحرب الدفع في ثلاثة اتّجاهات: أوّلًا، تطبيق القرارات الدوليّة ورفض اتّخاذ لبنان ساحةً مباحةً لحروب الآخرين؛ ثانيًا، انتخاب رئيسٍ للموقع المسيحي الأول في البلاد، لا يخضع للضغوط والإملاءات؛ ثالثًا، إعادة طرح مصير سلاح حزب الله على طاولة البحث الجدّي.
اتجاهات ليست بعيدة عن رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبناني نجيب ميقاتي الذي أكّد اليوم بعد جلسة حكوميّة أنّه «يوم جديد للسلام والاستقرار وتعزيز حضور الجيش اللبناني في جنوب لبنان».
ميدان مسيحيّ مثخن بالجراح
قبل أيّ حديث سياسيّ وحسابات استراتيجيّة، ما زال الميدان مثخنًا بالجراح. يعوز المناطق المسيحية في بيروت، المجاوِرة لضاحيتها الحنوبيّة، كثيرٌ من الوقت لمداواة حواسّها وتخفيف حدّة صدماتها.
بالكاد غفت عيون أهالي هذه المناطق طوال شهرَين. فمن لم يُجانِب القصف داره، أنهكه دويّ الغارات والمسيّرات، وشلّت الحرب حركته وأشغاله. قلّة من أبناء هذه المناطق غادرت بيوتها مع احتدام القصف.
بقي معظم الأهالي متمسّكين بإيمانهم ورجائهم. ما توقف قرع أجراس الكنائس في عين الرمانة والحدت الملاصقتَين للضاحية الجنوبية المستهدفة.
لامست شظايا الغارات بيوت الأولى، فيما تضرّرت كنيسة سيّدة النجاة في الثانية.
قبل ساعات، هجرَهما الدويّ اليوميّ. هي فرصة للذين غادروا إلى بيوت أقاربهم في المتن وكسروان (جبل لبنان) ليستعيدوا حياتهم الطبيعيّة.
ماذا عن العودة إلى قرى الحدود؟
مشهد العودة في بيروت القريبة لا يبدو مشابهًا في قرى الحدود المسيحية البعيدة. هناك حكاية أخرى تُروى، حكاية أخرى تُفرَد لها صفحات.
منذ أكثر من سنة، اتّجهت الأنظار نحو بلدات رميش وعين إبل ودبل والقوزح، وهي القرى المسيحيّة الحدوديّة الأربع التي تشكّل ما يُعرَف بـ«المربّع المسيحيّ» في قضاء بنت جبيل (جنوبيّ لبنان).
خلافًا لبيروت وضاحيتها والبقاع التي اختبرت طعم العنف منذ سبتمبر/أيلول الماضي، كان مسيحيّو الحدود الجنوبيّة يتجرّعون هذه الكأس منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يوم أعلن حزب الله فتح «جبهة مسانَدة» لغزّة من لبنان. مذاك الوقت، تستوطن ملامح المعاناة هذه القرى الأربع وتؤثّر بحدّة على يوميّات أهلها المعيشيّة، قبل أن ترميهم في شبه حصارٍ بعد التصعيد العسكريّ على امتداد الوطن.
تبدّلت معالم الصمود منذ شهرين في تلك البلدات، ففرغت عين إبل ودبل كلّيًّا من سكّانهما، وشكّلت القوزح أرض معركة حقيقيّة بلغت حدّ الاقتتال من «النقطة صفر».
أما رميش فحيّدت نفسها، رفضت اتّخاذ أراضيها منصّة لإطلاق الصواريخ، رفعت الرايات البيض، وشكّلت ملاذًا لبعض النازحين إليها من جاراتها المسيحيّة.
أبت البلدة التي تُعدّ كبرى رعايا أبرشية صور المارونية أن «تدفع فاتورة موقعها الجغرافي ككلّ مرة» على ما أكّد رئيس بلديّتها ميلاد العلم في حديث سابق إلى «آسي مينا».
ومع ذلك، دفعت البلدة وجاراتها ثمنًا من نوع آخر تمثّل في حصار معيشيٍّ حاولت الكنيسة المارونية ومؤسساتها بالتعاون مع مؤسّسات إغاثيّة دوليّة التخفيف من وطأته.
وليس بعيدًا من قرى بنت جبيل، نالت بلدات قضاء مرجعيون المسيحية نصيبها، وتحديدًا جديدة مرجعيون وبرج الملوك والقليعة وإبل السقي ودير ميماس.
سدّدت قسطها من القهر بشرًا وحجرًا وتهجيرًا، وقُطِعت أوصالها في حربٍ رفع الأهالي الصوت ضدّها بعدما اختبروا تبعاتها عقودًا قبل انسحاب الجيش الإسرائيلي نهائيًّا من لبنان عام 2000.
المسيحيّون عائدون!
مع دخول لبنان وجنوبه تحديدًا وقف نار حذرًا، ورغم عدم انسحاب الجيش الإسرائيلي كلّيًّا إلى ما وراء الحدود، تبدو شروط العودة مهيّأةً أمام سكّان القرى المسيحيّة.
باستثناء أولئك الذين تشكِّل لهم بلداتهم مصيفًا يغادرونه مع حلول الشتاء وانطلاق الموسم الدراسي، سيعود النازحون.
سيعودون إلى بيوتهم وأرزاقهم؛ سيعودون للمشاركة في قداديس شكر تحتضنها كنيسة التجلّي الرميشيّة؛ سيلبّون نداء عين إبل ودير ميماس اللتَين نشر أهلهما على منصاتهم:
«راجعون»؛ سيعود هؤلاء إلى أرضهم التي لم تعرف السلام المستدام منذ أكثر من أربعة عقود.
أرضهم التي قُدِّر لها أن تعيش في كلّ عقدٍ زمنيٍّ حربًا عبثيّة تُقحَم فيها قبل أن يبدأ الجرح بالالتئام.
خادم الرب
أترك تعليقك الجميل هنا