رسائل الاعتداء على الكنائس |
هل هنالك رسائل خلف الاعتداء على كنائس في سوريا
الأسئلة تتكثف في عقول السوريين بعد انتصارهم على نظام بشار الأسد، وأبرزها تدور حول آليات العيش معاً بصورة حقيقية، بعيداً عن مجاملات الإعلام وبروتوكولات الأقاويل في الجلسات الرسمية أو المقابلات، تطمينات حماية الأقليات التي تخللتها اعتداءات على كنائس مسيحية، تلتها اعتذارات من قبل “الهيئة” وترميم كل ما تضرر بسرعة فائقة.
ما زالت سردية التعددية السياسية والدينية في سوريا، تتحرك ضمن بلاغات “إدارة العمليات العسكرية” بعد سقوط النظام، وتتمحور حول منطق التطمينات المتكررة للطوائف والأقليات بضمان حقوقهم وممارسة طقوسهم وشعائرهم، والمسارعة إلى حل أي “مشكلة” أو “انتهاك” بصورة فورية، وأمام عدسات المؤثرين والمؤثرات.
التساؤلات اليوم لا تتعلق بكمية الانتهاكات الموثقة، بل بالفعل نفسه وأبعاده،خصوصاً أن سوريا لم تكن في يوم من الأيام، ذات صبغة دينية أو قومية واحدة، ولم يكن أبناء الأديان والقوميات المغايرة للإسلام والعرب، ضيوفاً أو حالات طارئة في هذه البلاد التي أضنتها الحروب والقتل على الهوية.
الأسئلة تتكثف في عقول السوريين بعد انتصارهم على غريمهم الأسد، وأبرزها تدور حول آليات العيش معاً بصورة حقيقية، بعيداً عن مجاملات الإعلام وبروتوكولات الأقاويل في الجلسات الرسمية أو المقابلات.
سقوط النظام السوري، والفرحة العارمة التي عاشها السوريون، ترافقت مع غياب مشهد التوافق السياسي حول مستقبل البلاد، ونظام الحكم وشكل الدولة، ومكانة المكونات الدينية والقوميات وحماية خصوصياتها في مستقبل البلاد، وبدأت تظهر بعض التجاوزات التي من شأنها تقويض السلم الأهلي والعيش المشترك، في حال لم يتم الانتباه لها مبكراً ووضع حلول جذرية من عقاب ومحاسبة، بخاصة أن الاكتفاء بسردية “تصرفات فردية” لا تفي بحقها؛ فالنتائج تكون إما في الأرواح أو الممتلكات.
تخريب كنائس في حماة والقامشلي
شهدت سوريا اعتداء على كنيستين في يوم الأربعاء 18-12-2024، حيث تعرضت كنيسة مار يعقوب النصيبيني التابعة للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في مدينة القامشلي، لهجوم من قبل جماعات لم تُعرف بعد، عمدت للعبث بمحتويات المكان وكسرت أثاثه.
كما أكدت مصادر ضمن مطرانية محافظة حماة، للروم الأرثوذكس لموقع “درج” حول حادثة الاعتداء “إن مجموعة كانت تضع أقنعة سوداء، هاجمت المطرانية مطلقة الرصاص الحي على الممتلكات وفي الهواء، ولاذوا بالفرار”، وعاشت مدينة السقيلبية في ريف حماة، أجواء مشابهة أيضاً، بعد تعرض إحدى كنائسها للاعتداء قبل نحو عشرة أيام، انتهت بتدخل ممثلين عن “ردع العدوان” والمساعدة في إعادة ترميم الأضرار والخراب.
تشرح الناشطة رهيف سعيد من حماة عبر الهاتف ملابسات حادثة الاعتداء: “هجمت مجموعة ملثمة على المطرانية في حماة بواسطة السلاح، وحاولت العبث بالصلبان والرموز والمقبرة الخاصة بها، ومع تدخل الأهالي ورعاية المطرانية، وإطلاق الرصاص الحي في الهواء، انتهى الاعتداء بتدخل العناصر المسلحة التابعة لحكومة دمشق، وقالوا إنهم ألقوا القبض عليهم وتمت محاسبتهم”.
تشكك رهيف بالرواية الرسمية وتقول: “برغم زيارة وفد من الفصائل المطران للاجتماع معه، وتأكيدهم الأخوة بين المسلمين والمسيحيين، وأنه تم إلقاء القبض على المعتدين، لكن من حقنا السؤال من هي تلك المجموعات، بخاصة أنه لا موقف رسمي من الكنيسة ولا القيادة العسكرية لدمشق، وهو ما يخلق القلق والخوف لدى الأهالي، هل حقاً هم مجموعات مخربة وغير معروفة، أم جماعات معروفة لكن لا أحد يرغب في الإفصاح عنها”.
تستغرب رهيف من تكرار سيناريو الروايات بشكل متطابق، وتقول: “غالبية الناس لا تصدق رواية الاعتقال لغياب الإثبات وعدم التعريف بهم وتقديمهم للمحاكمة، الناس ضائعون بين الجهات التي تخرب، وهل لها علاقة بالثورة أم لا؟ هذه الأفعال تقود إلى زرع القلق عند المسيحيين والخوف من نوعية الشراكة المقبلة ما بين الحكم الديني أو المدني، وهل سيعيشون في ظل فكر إسلامي أم لا؟ ومن نظرتهم إلى باقي المكونات”.
بعد سقوط نظام الأسد، وسيطرة “إدارة العمليات العسكرية” على معظم الأراضي السورية، أرسل أحمد الشرع رسائل طمأنة إلى المكونات القومية والدينية كالمسيحيين والكرد والدروز وغيرهم في سوريا، واعداً إياهم باحترام خصوصياتهم.
لكن طبيبة الأسنان من ريف حماة التي طلبت عدم الكشف عن اسمها لدواعي أمنية، قالت :”لا أحمل أي تفاؤل بمستقبل البلاد، لغياب أي مبشرات او مؤشرات للاستقرار، وبرغم زيارة وفد من الثوار المطرانية والكنائس ومساعدتهم بإعادة ترميم الصلبان والكنائس، لكن الخوف، هو الشعار الغالب حالياً”.
تضيف الطبيبة حول هذه الأعمال “على مدى عقود كنا ميالين للهدوء والابتعاد عن المواجهات والعيش بسلام مع الجميع، وهذه الممارسات تخيفنا من الثوار ومن الثورة والأيام المقبلة، خاصة مع تسيّد عناصر وفئات محددة للمشهد العام، وغياب تمثيل باقي المكونات والمحافظات الأخرى، بخاصة أن عمليات التخريب؛ وإن كانت قليلة وفردية، لكنها بدأت بعد سقوط النظام، فهل الغاية هي ربطها بالثورة؟”.
كما شهدت مدينة السقيلبية يوم الاثنين 23-12-2024، حادثة اعتداء على شجرة الميلاد التي كان الأهالي قد نصبوها قبل يومين من الاحتفال بميلاد المسيح ويوم رأس السنة الميلادية. في حديثه مع “درج” قال ملكي عبود من أهالي السقيلبية: “لم نفهم كلماتهم ولا لغتهم، سوى حديثهم أن الشجرة شرك بالله، العربية الفصحى غريبة عن لهجاتنا، كسروا أغصان الشجرة بأدوات حادة، أحرقوها، وأشهروا السلاح على المدنيين، كل ذلك أمام أنظار أطفالنا، سكبوا عليها المازوت، قالوا إنه للتدفئة، فتبين أنه لحرق أحلامنا، كانوا يفرحون بالحريق وكأنه النصر المؤزر، إلى متى سيقولون إنها تصرفات فردية”.
يضحك مطولاً وكأنها ضحكة التنفيس عن الغضب والكبت، ويضيف: “قالوا إنهم اعتقلوا الجناة، أساساً الشجرة منصوبة بالقرب من مركز الأمن العام، وجريمة الحريق كانت أمام أنظار عناصر الأمن العام الذين لم يحركوا ساكناً. هؤلاء لا يُشبهوننا ولا يشبهون سوريا التي نحلم بها، لأول مرة في تاريخ بلادنا تُحرق شجرة الميلاد”.
وتُعتبر مدن السقيلبية ومحردة وكفربو إضافة إلى قرى البيضة والبياضية وتومين وأيو، من أبرز مناطق انتشار المسيحيين في ريف حماة، وتضم مع يُقارب 19 كنيسة
انقسام في المواقف من الأحداث
أوضحت الصحافية ماريا حنا حول مجمل الاعتداءات على الكنائس أنها “تصرفات غير أخلاقية وعنصرية بامتياز، وتحمل رسائل حقد وضغينة، عدا أنها رسائل تبعث الخوف في قلوب المسيحيين السوريين، في محاولة من الفاعلين لنشر الفتنة وزرع الخوف الذي يؤدي إلى تهجير المسيحيين”.
وتعتبر ماريا أن هذه الاعتداءات تؤدي إلى “مخاوف حقيقية مما يمكن أن تؤول إليه الأمور في المستقبل، في حال لم يتم الوقوف في وجه هذه التعديات التي يتم وصفها بالفردية، والتصرفات الشخصية من قبل بعض الأشخاص الذين ما زالوا يحملون الفكر المتشدد، وسيؤثر هذا بشكل عام على عموم الأراضي السورية، وعلى الشعب السوري بكل أطيافه”.
وتختم حديثها قائلة:
“إن مثل هذه الأعمال التخريبية المُدانة، ظهرت مع بدايات سيطرة جماعات معينة على مناطق المسيحيين، واعتدائهم على المقدسات المسيحية من كنائس ومراكز دينية”.
ترى الناشطة المدنية والعضوة في “المنظمة الأشورية الديمقراطية” زوعا حنا أن هذه الحوادث هي “أفعال شائنة ومخيفة، لكن الإضاءة الجيدة هي عملية المتابعة والمحاسبة من جهات أمنية تابعة لإدارة العمليات العسكرية، وأطالب باستمرار عملية المحاسبة لتكون رسالة ردع لكل من يرغب في استثمار الفراغ الأمني في سوريا، الذي نتج عن سقوط النظام، والذي يغذي ردات الفعل أو الانتقامات الشخصية والاحتقان، لخلق الكثير من الفتن وخلط الأوراق”.
وتقول: “منذ عهد النظام السوري وأنا أعيش الخطر على وجودي، صحيح أنني مسيحية، لكن قوميتي آشورية سريانية، وكان النظام ينكر علينا حقوق المواطنة والاعتراف القومي بنا، مع ذلك لا أستطيع اعتبار الاعتداءات تهديداً للوجود المسيحي، حالياً لا دستور ولا استقرار، وهي مرحلة انتقالية وتصريف أعمال ولا يمكن الحكم النهائي عليها، ويجب عدم استغلال الأقليات في المرحلة المقبلة، كما فعل النظام السوري على أنه حامٍ لها، لكن ممن كان يحميها؟ مما أدى إلى خلق نزاعات وحساسيات بين مكونات المجتمع السوري”.
وتعتبر حنا أن النضال السياسي والإعلامي للآشوريين السريان إنما هو “دفاع عن وجودنا القومي والإنساني، ويجب ألا أبقى ضمن الشعور بالتهديد، بل أنتقل إلى العمل والإصرار على وجودي كسرياني آشوري في سوريا والمرحلة المقبلة، والأفضل أن يكون شعور الخوف جمعي على كل سوريا، وعلى السوريين أن يشعروا بمخاوف على بعضهم بعضاً”.
وتختم حديثها: “سوريا في مرحلة تحول، ودوماً يتم استثمار الأقليات وإخافتهم في المراحل الانتقالية أو الطارئة، علماً أنه فعلاً يوجد أحقاد بأبعاد هوياتية، لكن ما حصل في حماة كان على نطاق واسع وتمت إدانته والتحقيق فيه، وتم ترميم الخراب، على العكس من القامشلي لا إدانة ولا محاسبة ولا متابعة ولا حتى تغطية الموضوع بما يستحق”.
الموقف الرسمي
في حديثه مع “درج” عبر الهاتف من مملكة السويد، قال جميل دياربكرلي المدير التنفيذي “المرصد الآشوري لحقوق الإنسان”، حول الرسائل التي تقف وراء هذه الأعمال: “الرسائل كثيرة ومن جهات متنوعة، أهمها أن الجميع يستعمل المسيحيين كمكسر عصا، والجميع يحاول أن يُظهر اهتمامه بهم، ليقول للمجتمع الدولي بأني ديمقراطي ومتسامح وأقبل الآخر”.
وأضاف دياربكرلي حول نتائج مثل هذه الأعمال: “بغض النظر عن الجهة التي تقف وراءها، إلا أنها تشيع جواً من عدم الاطمئنان والخوف داخلاً وخارجاً، كما أن الأحداث خلال 14 عاماً الماضية تلعب دورها لكي يكون هذا الشعور مبرراً، وما أثار المخاوف أكثر، أنها تتزامن مع أعياد الميلاد المجيد حيث سيتوجه الناس إلى الكنائس للاحتفال بهذا العيد المهم للمسيحيين”.
ولم يخفِ دياربكرلي مخاوفه على الوجود المسيحي في سوريا، خاصة أنها تتمثل “باستمرار الصراعات وعدم انضباط المجموعات المسلحة، وبالعمليات الانتقامية من أتباع النظام السابق، وهي مخاوف من شكل الدولة والدستور ودور كل المكونات في إدارة البلد طبعاً، لكنها تبقى مخاوف، كوننا نعيش في هذا الشرق الذي يضطهد مسيحييه، ولكن نحن ننظر إلى ما الذي ينتظر البلاد في ظل الحكام الجدد، وكيف سيتعاطون مع هذه المخاوف التي ليست مخاوف مسيحية بل مخاوف سورية ككل”.
ويختم حديثه ل”درج”: “المسؤولية تقع عاتق على النظام السابق والمعارضة، في الانتهاكات التي جرت ضد الكنائس خلال عمر الثورة السورية، خاصة وأن سوريا تضم أكثر من 11 طائفة مسيحية، وعدد المسيحيين اليوم لا يتجاوز 18 ألفاً من أصل 120 ألف قبل عام 2011″، وفقاً لما قدمه دياربكرلي من إحصائيات تعود ل”المرصد الآشوري لحقوق الإنسان”.
وينتشر الآشور السريان في مدن ديرك، وتربسبي، وقامشلو، والحسكة، مع انتشار عشرات الكنائس في كل مدينة.
خادم الرب
أترك تعليقك الجميل هنا